الوضع اللبناني مخنوق للتمهّل المتعمّد في البحث عن الحلول الاقتصادية لأزمته البنيوية، بحثاً عن صيَغ تجمع بين حاجات الداخل المنهار وشروط «الخارج» السياسية والاقتصادية. هذه معادلة ضرورية تجتازها عادة كل البلدان التي تتعرّض لنكبات اقتصادية - سياسية المنشأ. فكيف الحل مع بلد كلبنان تتموضع أزماته في إطار فساد سياسي كبير، زاولته قواه التي تشكّل كل نظامه السياسي ومن دون استثناء. فمنها من سرق بالتحاصص والتلزيمات والاختلاسات، وقسم آخر غطّى السارقين السياسيين لمكاسب سياسية تتعلق إمّا بتوسيع تحالفاته الداخلية او لتغطيته في تأدية مشاريع إقليمية.
لذلك، تشكّل الحكومة الجديدة، التي يترأسها حسان دياب، الوسيلة التي ابتكرتها عبقرية قوى النظام السياسي للتعامل مع ازمة الانهيار الاقتصادي. فهي مستقلة بالعنوان الكبير، وغير مستقلة بانتماءات بعض وزرائها الذين يؤدون أدوار «الموازن» بين اهتمامات قواهم السياسية والتطلعات الاستقلالية لدياب.
بهذه الطريقة يستطيع «التيار الوطني الحر» و»الثنائي الشيعي» ووليد جنبلاط وطلال ارسلان وسعد الحريري وسمير جعجع وغيرهم، الاختباء خلف العربة الحكومية، فإذا نجحت في الانطلاق يسارعون للقفز الى داخلها وانتحال صفة المُنقذ، اما اذا تعرقلت و»حردت» فلن تصيبهم بأضرار كبيرة، لأنهم لن يتوانوا عن دفعها الى أقرب وادٍ سحيق.
هذه هي الطبقة السياسية اللبنانية التي تضمّ مجموعات من الثعالب والذئاب بأنياب قاطعة من فساد سياسي، مغطّى ببركات الأجنحة الطائفية من مذاهبهم وحاجات الخارج السياسي.
للتنبيه فقط من الحجم البنيوي للفساد، يكفي انّه اصبح الآلية الاساسية العلنية لانتظام المشاريع الحكومية والادارية، فيما اصبح الأداء السليم نكتة يسخرون منها ولها.
لقد تضاعف هذا الفساد من خلال تعاقب صيغ سياسية بدأت مارونية في 1948، وأصبحت سنّية بمشاركة مسيحية في الطائف 1989، وتحوّلت ثلاثية سياسية من السنّة والشيعة والمسيحيين في الدوحة 2008 بمشاركة درزية إنما على «القطعة».
وهذا استدعى نهباً رباعياً من القوى الاساسية عند هذه الطوائف، افقر «لبنان الارز» بديون فاقت الـ100 مليار دولار، مع السطو على تفاعلات اقتصادية ومصرفية جاوزت 250 مليار دولار، وأسست إدارات محشوّة بموظفين لا يعملون إلّا في مكاتب أحزابهم ومنازل رؤسائها، ويتقاضون رواتب من الدولة. هنا تكمن العبقرية اللبنانية التي أسّست لأحزاب ميليشيات على حساب الدولة والمواطن الفقير.
فهل تؤدي المفاوضات بين صندوق النقد الدولي ومسؤولين من مؤتمر «سيدر» الاوروبي الفرنسي وبين الدولة اللبنانية الى اتفاقات لتقديم ديون بفوائد منخفضة لوقف الانهيار؟
الوتيرة البطيئة للمفاوضات توحي بأنّ اصحاب المال ليسوا على عجلة من أمرهم، ولديهم شروط تبدو إصلاحية في ظاهرها لكن لها تداعيات على الاستقرار الاجتماعي من جهة والسياسي من جهة ثانية. فكيف يمكن تقليص القطاع العام بما يؤدي الى رفع معدلات البطالة الى اكثر من 50 في المئة من الشباب، في وقت تتراجع كل اسواق العمل العالمية وتقفل أبوابها بسبب التراجع الاقتصادي العالمي؟ وكيف نحرّر اسعار الليرة ولبنان يستورد سنوياً بـ 17 مليار دولار ولا يصدّر أكثر من 3 مليارات، وسط تراجع هائل في تحويلات من مغتربيه الذين بدأوا رحلة العودة التدريجية الى وطنهم لبنان؟
هذا يعني دولاراً قيمته 5 آلاف ليرة، وحداً أدنى للأجور لا يتعدّى 80 دولاراً.
وكيف نتذرّع بالتهريب لطلب نشر قوات دولية تقفل الحدود السورية ـ اللبنانية، فيما تبدو البلاد بأمسّ الحاجة الى حدود مفتوحة، تربطها بمدى عربي واعد يربط اقتصادياً بين لبنان وسوريا والاردن والخليج والعراق؟
لذلك، هناك 3 أسباب تعرقل بقسوة مشروع مجابهة الانهيار الاقتصادي، وأولها النزاع الاميركي ـ الايراني الذي يسرح في لبنان على شكل نزاع على الحدود السورية حيناً واختراقات لطيران اسرائيلي حيناً، وحوار حول قوانين انتخابية حيناً آخر، وهكذا دواليك، مسيطراً على كل مفاصل الحياة السياسية في لبنان وصولاً الى الدور الاقليمي لـ»حزب الله» انطلاقاً من الحدود اللبنانية.
هنا في الإمكان متابعة تحرّكات السفراء الاميركيين والسعوديين والاماراتيين بوضوح، فيما يختبئ السفير الايراني خلف «حزب الله» المحلي والاقليمي، والقادر على التعبير بخطاب داخلي ينسجم في أبعاده مع السياسات السورية والايرانية وامتداداتها في الاقليم.
واذا كان المسؤولون الاميركيون يواصلون بنحو شبه يومي إطلاق التصريحات حول ما تريده بلادهم في لبنان، فإنّ «حزب الله» بوقاره وتحالفاته، قادرٌ على إقناع الجميع بدوره الاقليمي والحاجات المرتبطة بها من دون تصريحات ايرانية او سورية.
ويبدو انّ الهدنة الاميركية - الايرانية في العراق ليست سارية في لبنان، وقد تكون المفاوضات مع صندوق النقد الدولي هي الوسيلة اليها، إنما مع مزيد من التمهّل الذي يسبب للبنان مزيداً من العناء وربما الانهيار.
امّا السبب الثاني فمتعلق بالطبقة السياسية. إذ كيف يمكن لفئات نَخرها الفساد حتى عميق عظامها، أن تقود عملية إصلاحية بنيوية حتى من خلال حكومة حسان دياب؟ فحتى اليوم تنبثق نزاعات بين اطرافها على التحاصص في الوظائف والالتزامات بنحو سافر.
هذا بالإضافة الى انّ انتفاضة اللبنانيين تحتاج الى تجارب طويلة لتتشكّل حتى تصبح قادرة على أداء دور الرقيب اولاً على أداء النظام، والمشارك لاحقاً في ادارته والمُمسك لاحقاً به ومنفرداً عبر إزاحة الطبقة السياسية.
هذان عاملان لا يشجعان على توقّع سيطرة كبيرة على الانهيار الاقتصادي في لبنان.
وهناك سبب ثالث كامن، لم تظهر تفاصيله، لأنّ الشكل الجديد لمنطقة المشرق العربية لم يتضح، خصوصاً مع تراجع النفط أسعاراً وإنتاجاً.
هذا يعني انّ المطلوب هو البحث عن أدوار إنتاجية جديدة للبنان تحتاج بدورها الى أوقات طويلة ليس بوسعه تحمّلها.
فهل سقطت مرحلة الإنتاج بالولاء السياسي؟
فالاقليم يتّجه الى الضمور السياسي لتقهقر أدواره الاقتصادية مع توقّع انحسار تأثيره الديني والسياسي الاقليمي.
هذا يستدعي، الى جانب المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، محادثات داخلية لبنانية، لتوفير أفضل الوسائل للدفاع عن لبنان. لكنّ المشكلة في قوى سياسية تحلب بلدها اقتصادياً وتضعه سياسياً في خدمة المشاريع الخارجية. فكيف يمكن المراهنة عليها؟